بسم الله الرحمن الرحيم"إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" صدق الله العظيم سوره القدر(1)
التفسير
(إنا) هذا ضمير التعظيم، فالله عز وجل يعظم ذاته العلية، وتكرر هذا في القرآن كثيراً، كقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105]، وقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ [ق:43]، وقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، ونحو ذلك من الآيات. وفي بعض الآيات الله عز وجل يتحدث عن نفسه بضمير الإفراد، كما في قوله سبحانه: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فالله سبحانه يعظم نفسه متى شاء، فهو العظيم وهو الكبير وهو المتعالي سبحانه وتعالى. قوله تعالى: ((إنا أنزلناه)) الضمير في قوله سبحانه: (أنزلناه) بإجماع المفسرين يرجع إلى القرآن، أي: أنزلنا القرآن، قال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي الإتيان بالضمير بدلاً من الاسم الظاهر إيماء إلى أنه مستقر في أذهان المسلمين؛ لشدة اشتغالهم به وشغفهم بقراءته. يعني لم يقل الله عز وجل: إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، وإنما قال: (( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ )) اكتفى بذكر الضمير، فقوله: ((إنا أنزلناه)) هذه الجملة إشارة إلى أنه من الله سبحانه، أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكان المشركون يقولون: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103] وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجلس إلى غلام نصراني اسمه جبر ، أو اسمه يسار ، وكان قيناً أي: حداداً يصنع السيوف، فقال المشركون: إن قرآن محمد يتعلمه من هذا الغلام النصراني، فقال الله عز وجل: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] أي: هذا النصراني أعجمي وهذا القرآن عربي مبين، وكما في الآية الأخرى قال الله عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195].
أقوال العلماء في سبب تسمية القدر بهذا الاسم
قوله: (( فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ )) ذكروا في تسمية ليلة القدر بهذا الاسم أقوالاً ثلاثة: الأول: قولهم: فلان ذو قدر، أي ذو شرف ومكانة، فسميت ليلة القدر؛ لشرفها ومكانتها، كما قال مجاهد ؛ لأن الله تعالى أنزل فيها كتاباً ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر، فأخذت الليلة شرفها من نزول القرآن فيها. الثاني: سميت ليلة القدر بهذا الاسم؛ لأنه تقدر فيها المقادير، والآجال، والأرزاق، والأعمال، كما قال ربنا سبحانه: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، كل شيء يقدر في هذه الليلة، خلال عام كامل، يكتب من يولد ومن سيموت، من سيؤمن ومن سيكفر، من سيهتدي ومن سيضل، يكتب ما يكون من مطر، ومن جدب، ومن وعطاء، ومن منع، ومن حياة، ومن موت، ومن صحة، ومن سقم، قالوا: حتى أسماء الحجيج تكتب فلا يزيدون واحداً ولا ينقصون واحداً، ونسأل الله أن يجعلنا من المكتوبين منهم. الثالث: سميت ليلة القدر بهذا الاسم من القدر الذي هو التضييق، كما مر معنا في قول الله عز وجل: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر:16] أي ضيق؛ لأن الملائكة ينزلون في تلك الليلة فيضيقون فجاج الأرض وأفواه السكك.
كيفية نزول القرآن في ليلة القدر
قوله: ((أنزلناه)) أي: القرآن، إما أن يكون المقصود ابتداء التنزيل، كما مر معنا في قول الله عز وجل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، وهو أن هذه الآيات نزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر. وإما أن يكون كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم بعد ذلك نزل به الملك منجماً على حسب الوقائع والأحداث، كما قال الله عز وجل: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا [الإسراء:106]، وقال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32].